عندما نتحدث عن ندرة المياه فإن آخر مكان قد يتبادر للذهن على سطح الأرض هو إنجلترا التي تهطل عليها الأمطار دون انقطاع للدرجة التي تجعل ال...
عندما نتحدث عن ندرة المياه فإن آخر مكان قد يتبادر للذهن على سطح الأرض هو إنجلترا التي تهطل عليها الأمطار دون انقطاع للدرجة التي تجعل التربة تبدو وكأنها مشبعة بالمياه دائما. كما تفيض خزانات المياه بالحدائق ولا يلزم اللجوء لمخزونها حتى شهر أبريل/نيسان.
لكن بعد أشهر قليلة، تنضب خزانات المياه بالحدائق، إذ يتوزع جزء كبير من الأمطار بالمملكة المتحدة على المرتفعات الإسكتلندية وويلز وشمال إنجلترا.
وعلاوة على ذلك، يتركز السكان بجنوب شرقي بريطانيا، حيث يعيش نحو 18 مليون نسمة على مساحة لا تتجاوز 19 ألف كيلومتر مربع، وهي المنطقة التي تضم العاصمة لندن في نطاق تنضب مياهه بشكل متسارع.
وقد شهد العام الماضي انخفاض متوسط سقوط الأمطار في إنجلترا لستة أشهر متتالية، وهو ما أدى لتدنى منسوب المياه بالخزانات العامة لمستويات خطيرة. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك، فقد شهد 2017 عشرة أشهر كانت الأشد جفافا في المنطقة منذ أكثر من 100 عام.
وتُظهر أحدث خطة اعتمدتها الحكومة للاستفادة بالمياه أنه لا يجري تعويض 28 في المئة من المياه المستنفدة من خزانات المياه الجوفية و18 في المئة من الأنهار والمستودعات الأخرى في انجلترا، بينما يُصنف 17 في المئة فقط من أنهار إنجلترا على أنها "في وضع بيئي جيد".
ومع ذلك، لا يدرك كثير من البريطانيين أن بلادهم تعاني من مشكلة نقص المياه. وتُستخدم النسبة الأكبر من المياه العذبة بالمملكة المتحدة (55 في المئة) للاحتياجات المنزلية، في حين يجري تخصيص واحد في المئة فقط لقطاع الزراعة.
ويستخدم المواطن البريطاني في المتوسط 150 لترا من الماء يوميا، يستهلكها في الاستحمام والمراحيض وغسالات الأطباق وغسيل الملابس وري الحدائق، مقابل ما يتراوح بين 50 و70 لترا يوميا للمواطن في كيب تاون، رغم أن متوسط سقوط الأمطار سنويا في هذه المنطقة يصل أقل من نصف ما تشهده إنجلترا.
وتقول هانا فريمان، مسؤولة التنسيق الحكومي بجمعية "وايلدفاول آند وتلاندز تراست" المعنية بحماية الطيور والمسطحات المائية الطبيعية، إن "الناس لا يرون أن هناك حاجة لتوفير الماء، باعتبار أن بلادنا تهطل فيها الأمطار بغزارة، لكن أحدث توقعات التغير المناخي تشير إلى احتمالات هطول الأمطار بمعدلات أقل بنسبة تصل إلى 50 في المئة خلال فصل الصيف في السنوات المقبلة".
وعلاوة على ذلك، أصبحت درجة الحرارة في فصل الشتاء في بريطانيا أعلى من معدلاتها السابقة، إذ وصلت درجة الحرارة في شهر فبراير/شباط 21.2 درجة مئوية في لندن، وهي أول مرة تتجاوز فيها درجة الحرارة 20 درجة مئوية في فصل الشتاء. وشوهد البريطانيون وهم يرتدون السراويل القصيرة ويستلقون للاستمتاع بأشعة الشمس بالحدائق العامة بدلا من ارتداء الملابس الثقيلة في هذا الشهر.
وتمثل إنجلترا حالة جديرة بالدراسة لبلد مطير يتعين عليه الحذر من مواجهة نقص محتمل في المياه مستقبلا. ويقول كونر لينستد، الخبير الدولي للمياه العذبة بالصندوق العالمي للطبيعة، إن دولا كثيرة "بدأت تعاني الآن من نقص المياه بسبب استنفاد مواردها المائية لعدم تنبهها لضرورة الاعتماد على آليات مناسبة لاستهلاك المياه. وستصبح مواسم الجفاف التي كانت استثنائية أمرا معتادا جراء التغير المناخي".
ولم يصدق العالم في عام 2014 أن المياه كادت تنعدم بمدينة ساو باولو بالبرازيل - البلد الذي يمتلك ما يتراوح بين 12 و16 في المئة من إجمالي المياه العذبة في العالم - خلال أسوأ موجة جفاف في تاريخ البلاد. إذ انخفض المخزون الرئيسي لكبرى مدن البرازيل ليصل إلى ثلاثة في المئة فقط من سعته.
وفي أغسطس/آب 2018 انخفض منسوب نهر الدانوب العظيم في المجر إلى حد قياسي ناهز نصف المتر، وهو ما اضطر السلطات لوقف المراكب السياحية وحركة نقل البضائع نهريا.
وتصنف الهيئة البريطانية للبيئة منطقة لندن ومحيط التيمز باعتبارها "تشهد ضغطا خطيرا على المياه". ويقول ستيف تاك، وهو مسؤول استخراج الماء بشركة "تيمز ووتر" للمياه: "منشآت تخزين المياه لدينا صغيرة نسبيا، وهو ما يعني أننا نحصل على المياه من الأنهار وطبقات الأرض مباشرة لخدمة التركز السكاني الكبير بالمنطقة".
ويشير تاك إلى أن ما يُستخرج يذهب مباشرة لسد حاجة السكان دون وجود فائض في أغلب الأحيان. ورغم أن ارتفاع معدل الأمطار في الشتاء عادة ما يكفي لتعويض المستخرج من الماء، فقد تفاقمت المشكلة نتيجة زيادة الاستهلاك المنزلي وتنامي السكان وقلة المطر في الصيف.
وقد لجأت شركة "تيمز ووتر" للاستثمار في أول محطة بريطانية لتحلية المياه لتوفير 150 مليون لتر من مياه الشرب الإضافية يوميا للندن.
ويقول تاك: "ثمة خيار آخر يتمثل في نقل المياه من نهر سيفرن الذي ينبع من مرتفعات ويلز عبر أنابيب إلى التيمز"، وهو ما يهدد بأن يجور جنوب البلاد على حصة المياه المخصصة لمناطق بريطانية أخرى.
ويُخشى أيضا من أن تجور بلدان الشمال على حصة الجنوب عالميا، إذ تتوافر الفواكه والخضروات الطازجة بالمتاجر البريطانية على مدار العام وباختلاف المواسم كواردات من مناطق أخرى بالعالم. وتقول دوركاس برات، نائبة مدير جمعية "ووتر ويتنس إنترناشيونال" المعنية بالتنمية المستدامة والمياه، إن "62 في المئة من استخدامنا الافتراضي للماء في بريطانيا - أي المياه التي كنا سنحتاجها لو زرعنا تلك المحاصيل بأنفسنا - يأتي من الخارج".
وتضيف: "ما نستهلكه عالميا من المياه يؤثر في مجتمعات واقتصادات أخرى، أي أننا لا نستنفد المياه بشكل مفرط من خزانات بريطانية فحسب، بل نفعل الشيء نفسه عالميا عبر أنماط استهلاكنا المرتبطة بالعولمة (ناهيك عن التلوث، والصراعات التي قد تنشب جراء المياه، والإضرار بالأنظمة البيئية). ويؤثر ذلك في بلدان أخرى بمختلف أنحاء العالم".
ورغم أن فترات الجفاف أصبحت أكثر شيوعا في المملكة المتحدة، تعتقد كاثرين مونكريف، التي تعمل بالصندوق العالمي للطبيعة ببريطانيا، أن الأمر يعود بشكل أكبر "للاستخدام المسرف للمياه"، نظرا لأن الناس في البلدان المطيرة لم يتعودوا على تقدير أهمية الماء.
ولا توجد عدادات لاستهلاك المياه سوى في 50 في المئة من المنازل في إنجلترا وويلز، بينما يدفع النصف الآخر قيمة شهرية ثابتة بغض النظر عن كمية الاستهلاك. وبالتالي، قد يترك المرء المياه طوال اليوم في الحديقة أو يفتح صنبور الاستحمام ساعة كاملة دون دفع تكلفة إضافية.
وأشار تقرير أصدرته وكالة البيئة في بريطانيا عام 2008 إلى أن الدنمارك وفنلندا وهولندا وألمانيا وبلجيكا قد انتهت من تركيب عدادات للمياه بجميع المنازل تقريبا، وهو ما أدى لترشيد الاستهلاك كثيرا عن معدل استهلاك الفرد البريطاني البالغ 150 لترا في اليوم الواحد. إذ يصل متوسط الاستهلاك في فنلندا إلى 115 لترا في اليوم، مقارنة بما يتراوح بين 350 و420 لترا يوميا في السبعينيات من القرن الماضي!
ويقول التقرير إن هذا الانخفاض الملحوظ جاء نتيجة "ارتفاع فواتير المياه وتوافر تقنيات أفضل بالمنازل وزيادة وعي المستهلكين وحسن إدارة الموارد".
ويشير لينستد، من الصندوق العالمي للطبيعة، إلى أن "كافة البلدان التي بدأت حملات ناجحة لتوفير المياه اعتمدت على تركيب العدادات، وهو الأمر الذي ساعد أيضا على رصد حالات تسرب المياه والحفاظ عليها".
وفي الماضي، كانت الدنمارك من البلدان التي كانت تتعامل مع المياه على أنها مورد مستباح. وكان يمكن تفهم الأمر نظرا لأن هذا البلد الصغير يضم نحو 120 ألف بحيرة و69 ألف كيلومتر من جداول المياه. وفي عام 1989، كان المواطن الدنماركي يستهلك في المتوسط 170 لترا من المياه يوميا على الأغراض المنزلية بتكلفة لا تتعدى اثنين يورو للمتر المكعب (ألف لتر من الماء).
لكن بعد إلزام المنازل بتركيب عدادات والارتفاع المتكرر لفواتير المياه التي وصلت إلى سبعة يورو للمتر المكعب بحلول 2012، انخفض استهلاك الفرد إلى 114 لترا يوميا.
ويذهب الصندوق العالمي للطبيعة لأبعد من ذلك بالقول إنه بات بالإمكان الآن الوصول إلى 80 لترا للفرد "دون عناء يذكر" في المنازل المزودة بالأجهزة الحديثة الموفرة للماء.
وفي الفترة بين عامي 2010 و2015، أصبحت شركة "ساوثزيرن ووتر" أول شركة إنجليزية للمياه تبدأ تركيب العدادات إلزاميا. وشهدت نفس الفترة انخفاض معدل استهلاك الفرد للمياه بنسبة 16 في المئة، فضلا عن انخفاض تسرب الماء بنسبة 15 في المئة.
وتقول فريمان إنه لا يوجد ما يمنع إنجلترا "من الوصول إلى الأمن المائي". وتضيف: "لدينا الكثير من المياه حين تمطر، فقط يتعين علينا أن نحسن الاستفادة منها".
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Future
COMMENTS