تتغير التدابير بتغير الظروف التي تمليها، ولم يمر زمن أكثر يأسا على العالم من ذلك الزمن الذي أخذت فيه أقوى الأمم تتناحر جاعلة من العالم مس...
تتغير التدابير بتغير الظروف التي تمليها، ولم يمر زمن أكثر يأسا على العالم من ذلك الزمن الذي أخذت فيه أقوى الأمم تتناحر جاعلة من العالم مسرحا لمعاركها، إنها الحرب العالمية الثانية بكل مآسيها.
بعد مرور أكثر عامين من مواجهة القوات النازية الغازية في العديد من المعارك، نفذت من قوات التحالف، التي يبدو أن الحرب قد أخذتها على حين غرة، الموارد الضرورية والأساسية التي تدخل في صنع العتاد الحربي العسكري، والمعدات البحرية العسكرية كذلك، وكان من بين هذه الموارد التي صارت نادرة: الفولاذ.
في شمال المحيط الأطلسي، كانت الأساطيل البحرية الحربية البريطانية تخوض معارك طاحنة ضد غواصات الـU-boats الألمانية، كما كانت سفن الإمدادات والمؤن التابعة للحلفاء يتم اعتراضها في طريقها عبورا للمحيط، وكان معظمها يلقى مصير الغرق على يد الـU-boats الألمانية كذلك، وذلك بنسب وأعداد هائلة أثارت حالة هلع وطوارئ كبيرة لدى قيادة قوات الحلفاء.
كان بإمكان الطائرات إمداد السفن بالمساعدة والحماية اللازمة، إلا أنه كان مستحيلا التحليق في عرض المحيط دون الاستعانة بحاملات طائرات، حاملات الطائرات هذه التي كانت ضخمة للغاية وتطلب بناؤها كميات هائلة من الفولاذ، الذي كان نادرا بالطبع.
فما كانت قوات الحلفاء بحاجة إليه بالضبط هو وسيلة تتمكن من خلالها الطائرات من الهبوط والتزود بالوقود والإقلاع مجددا دون إنهاك الموارد المستنفذة سابقا.
تصميم يعود لفنان حول مشروع حبقوق |
أتى عالم بريطاني يدعى (جوفري بايك)، الذي كان يشغل منصب مستشار للقائد الأعلى للقوات (لورد مونتباتن) في مركز العمليات المشتركة، أتى بفكرة لامعة: وهي صناعة حاملة طائرات من الجليد،فالجليد قاس بما فيه الكفاية، وهو لا يغرق، كما أنه بالإمكان تصليح أي ضرر يلحق به من خلال تجميد كتل من الجليد وتلحيمها في المكان المتضرر فقط.
إقترح (بايك) الذي لطالما كان لديه ميل تجاه الأفكار الغريبة، أن يتم اقتطاع جزئ كبير من جبل جليدي في القارة المتجمدة الجنوبية، ثم يتم سحبه إلى المحيط، ومع جعل سطحها مستويا بما فيه الكفاية، بإمكان قطعة الجليد العملاقة هذه أن تؤدي دور منصة هبوط للطائرات، وإن أتيح بطريقة ما إحداث تجويف في مركزها، فسيصبح بالإمكان كذلك إنشاء مكان مثاليا لإيواء وإخفاء الطائرات.
بطريقة ما، تمكن (بايك) من جعل (لورد ماونتباتن) يقتنع بالفكرة، والذي بدوره كان قادرا على إقناع رئيس الوزراء البريطاني آنذاك (وينستون تشرشل) بأنه أصبح من المتاح الفوز بتلك الحرب باستخدام الجليد.
أعطى (تشرشل) على إثر ذلك الضوء الأخضر من أجل الإنطلاق في تنفيذ المشروع، الذي أطلق عليه اسم (مشروع حبقوق) -حبقوق هو اسم نبي من أنبياء بني إسرائيل الذي ذكر في أحد آسفار إنجيل حبقوق، والذي كان كالآتي: ”دع الدهشة تنل منك، لما أنا بصدد القيام به في أيامك تلك الذي لن تستطيع تصديقه، حتى وإن أخبرت به“.
كان من المقرر أن تكون حاملة الطائرات التي تصورها (بايك) بطول 609 أمتار وبعرض 91 مترا، وتزن أكثر من مليوني طن، وكان هيكلها وبدنها الخارجي المضاد للطوربيدات بسماكة إثني عشر مترا، وقد كانت ليتم تجهيزها بأبراج ذات مدافع مزدوجة الماسورة، والعديد من الرشاشات المضادة للطائرات من الوزن الخفيف، وقد كان المهبط على سطحها قادرا على حمل 150 طائرة من ذوات المحركين؛ سواء كانت قاذفة قنابل أو طائرات مقاتلة.
حاملة طائرات مشروع حبقوق |
تصميم مشروع حاملة طائرات مشروع حبقوق |
كانت هناك مشكلة واحدة فقط حول هذه الفكرة، وهي كون الجليد معرض للذوبان، إلا أن (جوفري بايك) كان له حل لهذه الإشكالية كذلك، كان الحل هو نظام تبريد هائل يتكون من شبكة معقدة من الأنابيب التي تضخ السوائل المبردة عبر كامل بدن السفينة، من أجل الحؤول دون ذوبان جليدها.
سرعان ما أنشئ نموذج تجريبي عن السفينة بطول ثمانية عشر مترا وبوزن ألف طن، وذلك في بحيرة (باتريسيا) في جبال (الروكي) الكندية، كما ساعد نظام تبريد بقوة حصان بخاري واحد على الإبقاء على السفينة باردة بما فيه الكفاية لتصمد أمام أشهر الصيف الحارة كلها.
بناء النموذج التجريبي لمشروع حبقوق في بحيرة (باتريسا) في (البرتا) بكندا |
خلال التجارب والاختبارات التي أجريت عليها، بدت على سفينة مشروع (حبقوق) بعض المشاكل، فعلى الرغم من كون الجليد قاسيا، فإنه كان هشا كذلك، أضف إلى ذلك أنه يفقد شكله تحت الضغط، فكانت بذلك سفينة بحجم (حبقوق) معرضة للتشوه تحت الضغط الذي يمارسه عليها وزنها نفسه.
ومن باب الصدف السعيدة التي ألقت بظلالها على هذا المشروع، كان طالبان وباحثان في المعهد التقني في (بروكلين) بـ(نيويورك) قد نجحا في إحداث ثورة في هذا المجال، فقد اكتشفا أنه إن تم مزج الخشب أو نشارة الخشب مع الماء وجمّدا، فينتج عن ذلك مادة أقوى بأربعة عشر مرة من الجليد الفعلي، وأقسى من الخرسانة.
أظهرت التجارب أن هذه المادة الجديدة كانت مقاومة بشكل فعال للضغط، وحتى الرصاص، كان بالإمكان قص وقطع هذه المادة الجديدة كالخشب، كما كان بالإمكان صبها وقولبتها مثل المعدن، وعند غمرها بالمياه، كانت تشكل هيكلا عازلا من لب الخشب المبلل على سطحها، والذي قام بحماية داخلها من الذوبان؛ أطلق على هذه المادة الرائعة اسم (بايكريت) تيمنا بالعالم (بايك).
تفيد القصة بأن رئيس الوزراء البريطاني (تشرشل) كان يستحم في منزله في أواخر سنة 1942 عندما اقتحم عليه (لورد مونتباتن) حمامه من شدة الحماسة التي أخذته، وألقى بقطعة من مادة الـ(بايكريت) في حوض الاستحمام خاصته وأمضى الإثنان بضعة دقائق وهما يشاهدان قطعة الجليد تلك وهي تقاوم الذوبان عائمة في مياه الحوض الساخنة، بينما تعتري وجهيهما نظرات وتعابير الدهشة والذهول.
تروي قصة أخرى ما كان قد جرى في عرض حماسي أداه (لورد ماونتباتن)، التي رواها عدد من الشهود عن هذا العرض الذي جرى خلال (مؤتمر الكيبك) في سنة 1943.
كان (ماونتباتن) قد أحضر إلى المؤتمر كتلتين، واحدة من الجليد والأخرى من البايكريت، ووضع كلتيهما على الأرض، ثم وبدون سابق إنذار، سحب مسدسه ثم قام بإطلاق النار على كتلة الجليد ناثرا إياها إلى قطع صغيرة، قام بعد ذلك بتوجيه مسدسه إلى قطعة البايكريت وأطلق النار، وفي هذه المرة ارتدت الرصاصة من الكتلة واتجهت نحو الحاضرين في القاعة الذين كانوا يشاهدون العرض بذهول، حيث مرت بين سيقانهم، وأحدثت ثغرة في ساق بنطال الأدميرال (إرنست كينغ)، وانتهى بها المطاف في الحائط.
كانت هذه المادة ”المعجزة“ هي كل ما كان يحتاجه (جوفري بايك) من أجل نجاح مشروع حبقوق خاصته، فتم على إثر ذلك الدفع بعجلة التصاميم وخطط بناء حاملة الطائرات هذه إلى الأمام بقوة، وحدّد أن كل سفينة (حبقوق) ستحتاج إلى ثلاثمائة طن من لب الخشب، و25 ألف طن من الألواح الليفية العازلة، و35 ألف طن من ألواح الخشب، وعشرة آلاف طن من الفولاذ، وتم بذلك تحديد التكلفة الأصلية لبناء مثل هكذا سفينة بـ700 ألف جنيه إسترليني.
تصميم حاملة طائرات مشروع حبقوق |
لكنه ومع التقدم في إنشاء التصاميم، أصبح يظهر جليا أن الحاجة إلى المزيد من التدعيم الفولاذي أخذت تتزايد، بالإضافة إلى تزايد الحاجة إلى نظام العزل الفعال، وارتفعت على إثر ذلك تكلفة السفينة المرجحة إلى 2.5 مليون جنيه إسترليني (أكثر من 100 مليون جنيه إسترليني في أيامنا الحاضرة).
ظهرت كذلك العديد من المشاكل فيما يتعلق بنظام توجيه السفينة، حيث كان من المحتم أن تكون لسفينة بذلك الحجم الهائل قدرة توجيه ومناورة محدودة نسبيا، وسرعة قصوى لا تتعدى ستة عقدات بحرية، الأمر الذي وصفته البحرية بـ”شديد البطء“.
لكن المشكل والتحدي الأكبر الذي واجه المشروع كان المواد الخام نفسها.
تماما مثل الفولاذ، كان الخشب في ندرة كبيرة أيضا، ومنه فإن بناء سفينة (حبقوق) واحدة فقط كان ليؤثر على صناعة الورق بشكل سلبي وكبير جدا، أضف إلى ذلك تعقيد عملية البناء تلك، ونظام العزل، ثم تبريد هيكل بذلك الحجم الهائل، وهو الأمر الذي كان سيتطلب جهدا ووقتا لم يكن أي منهما متاحا لقوات الحلفاء آنذاك.
بشكل محتوم، تم إهمال والتخلي عن فكرة مشروع (حبقوق)، واتّخذت عدة خطوات عملية قابلة للتنفيذ: على غرار إنشاء مطارات ومهابط طائرات على سواحل جزر (الأزور)، مما سهل بشكل معتبر مطاردة غواصات الـU-boats في المحيط الأطلسي، كما أن إضافة خزانات وقود أكبر سعة إلى الطائرات البريطانية مدد من المدة التي تمكنت فيها من القيام بالدوريات الجوية فوق المحيط الأطلسي.
اليوم، تقبع البقايا الملموسة الوحيدة من مشروع (حبقوق) في قاع بحيرة (باتريسيا) في (ألبرتا) بكندا، حيث تم اختبار النموذج التجريبي.
عثرت بعثة غطس في الموقع سنة 1985 على الجدران الخشبية للهيكل، وبعضا من المواد والعتاد الأساسي الذي يدخل في عملية التبريد والعزل، بالإضافة إلى لافتة معدنية وضعت لتخليد ذكرى المشروع.
حطام السفينة الجبل الجليدي تحت بحيرة (باتريسا) |
المصادر:
موقع itotd
موقع gizmodo
موقع untestedarms
ترجمة دخلك بتعرف
COMMENTS