قليلون هم الرجال الذين أتيحت لهم فرصة بناء سلام متماسك على أنقاض حرب بدأوها بأنفسهم، ولعل مارتن ماكغينيس أحدهم. نائب رئيس وزراء أيرلندا الشم...
قليلون هم الرجال الذين أتيحت لهم فرصة بناء سلام متماسك على أنقاض حرب بدأوها بأنفسهم، ولعل مارتن ماكغينيس أحدهم.
نائب رئيس وزراء أيرلندا الشمالية الأسبق، وأحد القادة العسكريين للجيش التحريري الأيرلندي.
فمن هذا الرجل الذي حارب البريطانيين عقوداً ثم أقام السلام وصافحهم؟
لا بد في البداية لفهم الأسباب التي أدت لاندلاع الحرب بين بريطانيا وأيرلندا الشمالية، من شرح موقع الأخيرة الجغرافي، إذ تقع أيرلندا الشمالية ، شمال جزيرة أيرلندا، وتشاركها على تلك الجزيرة جمهورية أيرلندا المستقلة عن المملكة المتحدة.
في حين تضم بريطانيا العظمى، الجزيرة الجارة ثلاث دول أخرى هي «اسكتلندا وانجلترا وويلز»، بينما تضم «المملكة المتحدة» كلاً من «اسكتلندا و انجلترا وويلز بالإضافة إلى أيرلندا الشمالية».
وقد كان البروتستانت الموالون بطبيعة الحال للمملكة المتحدة على مر التاريخ أفضل حالاً من جيرانهم الكاثوليك المعارضين للمملكة والمحاربين من أجل الانفصال عن المملكة المتحدة والانضمام لجمهورية أيرلندا.
من أسرة كاثوليكية
ولد مارتن ماكغينيس عام 1950 ضمن أسرة كاثوليكية بسيطة تعيش بمدينة ديري/لندنديري في أيرلندا الشمالية، غير المرتبطة كثيراً بالحركة الجمهورية في المدينة، فلم تكن "ديري" مدينة فعالة في الحركة الانفصالية.
مارتن ماكغينيس الثاني من اليمين - ديري/لندنديري |
اضطر مارتن فيما بعد، ولظروف عائلية، إلى العمل في "ملحمة - " ولم يكن قد تخطى الخامسة عشرة من عمره بعد، إلا أن أحداً لم يتوقع أن يصبح هذا الصبي "الجزار-اللحام" أحد قادة ميليشيات الجيش التحريري الأيرلندي، الذي يسبب الأرق لأحد أقوى جيوش العالم.
مارتن ماكغينيس في مسيرة إحياء ذكرى بوبي ساندز على طريق فولز في غرب بلفاست في الثمانينيات مع جيري آدامز وداني موريسون من شين فين |
شرارة ثورته
بدأت شرارة ثورته حين استفز مشهد النائب الأيرلندي الشمالي «جيري فيت» المغطى بالدماء بعد مشاحنة مع شرطة بلفاست، مشاعر الصبي مارتن ماكغينيس، ما دفعه للالتحاق بالجيش التحريري الأيرلندي في الثامنة عشرة من عمره.
ليصبح بعد عامين فقط ثاني أهم رجل في التنظيم بمدينة ديري، وليتعرف بعدها على «جيري آدامز»، أبرز قادة الجيش.
جيري آدامز و مارتن ماكغينيس |
شهدت ديري عام 1972 وفاة 14 متظاهر سلمي على يد الجيش البريطاني في إيرلندا الشمالية. وأدت هذه الحادثة إلى تصعيد هجمات المقاومة من جانب مارتن ورفاقه، ليسطع نجمه ويصبح أحد المفاوضين في المحادثات السرية التي قامت بين حكومة المملكة المتحدة من جهة والانفصاليين المسلحين من جهة أخرى.
مارتن ماكغينيس في مسقط رأسه مدينة ديري / لندنديري |
إلا أن تلك المفاوضات باءت بالفشل بعد أحداث عدة، أهمها انتشار الجيش البريطاني في ديري وبلفاست عاصمة أيرلندا الشمالية، وقيام رئيس وزراء بريطانيا المحافظ «ويليام هيث» بتعليق أعمال الحكومة الأيرلندية الشمالية، ثم قتل 26 جندياً بريطانياً في عام 1972 في ديري فقط.
تجربة السجن
سجن مارتن عام 1973 بسبب تواجده بجوار سيارة محملة بالمتفجرات والأسلحة، لكن ماكغينيس رفض الاعتراف بارتكابه أي ذنب في المحكمة.
أفرج عنه لاحقاً، وتلا هذا الإفراج هجوم إرهابي على حانة في برمنغهام الإنجليزية، راح ضحيته 21 شاباً إنجليزياً وإصابة 162 شخصا آخرين، ليتم القبض على مارتن مجدداً بتهمة انضمامه للجيش التحريري الأيرلندي.
الزواج والهدنة القصيرة
بعد الإفراج عنه تزوج ماكغينيس من «بيرنديت كاننينج» لينجبا لاحقاً أربعة أطفال وتدخل أيرلندا الشمالية بعدها في هدنة قصيرة، صرح خلالها ماكجينيس بنهاية عضويته في الجيش التحريري الأيرلندي واهتمامه بالعمل السياسي ليصبح أحد أهم قادة حزب شين فين الذراع السياسية للجيش التحريري الأيرلندي، إلا أن ماكغينيس لم ينصرف حقاً عن التنظيم العسكري وظل أحد قادته والمفاوضين عنه في الخفاء حتى يعود مجدداً للظهور كقائد عام للجيش التحريري الأيرلندي عام 1977.
ويقوم خلال الأعوام التالية بأكثر الهجمات العسكرية إيلاماً للجيش البريطاني في ديري وأيرلندا الشمالية بشكل عام، إضافة إلى تنفيذ اغتيالات عسكرية لقادة حركة الموالين، وأسر ضباط بريطانيين بعد توسيع الجيش التحريري الأيرلندي لأهدافه لتشمل أسر الضباط والمدنيين المعاونين للجيش البريطاني ورجال الأعمال المواليين.
مفاوضات سرية فاشلة وجولة من العنف
دخل مارتن ماكغينيس مجدداً في مفاوضات سرية مع إعداده عام 1981 أثناء حادثة الإضراب عن الطعام الشهيرة، إلا أنها باءت بالفشل. واستمر الحال على ما هو عليه خلال الثمانينات من القرن الماضي، ودخلت أيرلندا الشمالية في سلسلة من أحداث العنف بين الموالين للمملكة والجمهوريين، لم تنته إلا منتصف التسعينات، مع دخولها في جولة جديدة من المفاوضات مع المملكة المتحدة.
وانتهت المفاوضات بإعلان الجيش التحريري الأيرلندي بعدها نهاية العنف في أيرلندا الشمالية والدخول في محادثات جادة لحل الأزمة سياسياً يقودها مارتن ماكغينيس ورفيقه جيري آدامز.
اتفاقية بلفاست - اتفاق الجمعة العظيمة
عام 1998 وقعت بريطانيا مع أيرلندا الشمالية اتفاقية بلفاست، التي سمحت بإقامة علاقات ثنائية جادة بين جمهورية أيرلندا وأيرلندا الشمالية.
كانت من نتائج هذه الاتفاقية اعتذار الجيش التحريري الأيرلندي لأهالي الضحايا غير العسكريين الذين راحوا ضحية الاقتتال على مدار أكثر من ثلاثين عاما ومن ثم قاموا بتسليم السلاح عام 2005.
اتفاق الجمعة العظيمة أو اتفاق بلفاست هو اتفاق تم التوقيع عليه سنة 1998 بين بريطانيا وجمهورية إيرلندا وأحزاب إيرلندا الشمالية. يدعو الاتفاق البروتستانت إلى تقاسم السلطة السياسية في إيرلندا الشملية مع الأقلية الكاثوليكية وتعطي جمهورية إيرلندا رأيًا في شؤون إيرلندا الشمالية.
إلى السلطة مع عدو الماضي ثم الاستقالة
بعد عملية السلام التي قادها جيري آدامز ومارتن ماكغينيس، دخل حزب شين فين في حكومة مع الموالين، وأصبح مارتن ماكجينيس نائب رئيس وزراء أيرلندا الشمالية الموالي إيان بايسلي عام 2007، ليخرج بعدها مارتن ماكغينيس ويقول للأيرلنديين الشماليين إنه قادر وعدو الماضي إيان بيزلي أن يرسما مستقبلاً أفضل سوياً حتى مع اختلاف وجهات نظرهم.
تم تصوير إيان بيزلي ومارتن ماكغينيس بعد أداء اليمين الدستورية كنائب أول ، ونائب أول وزير في جمعية أيرلندا الشمالية في عام 2007 - أطلق عليهما فيما بعد لقب "أخوة الضحكة" |
عام 2012 قامت الملكة اليزيبث الثانية بزيارة عاصمة أيرلندا الشمالية - بلفاست في مشهد لم يكن يتوقعه أكثر الأيرلنديين الشماليين تفاؤلاً خلال القرن الماضي، لترتسم بعدها صورة مارتن ماكغينيس وهو يصافح الملكة بعد ثلاثين عاماً من الصراع.
استقال مارتن ماكغينيس في يناير/كانون الثاني - 2017 من منصب نائب رئيس الوزراء بعد رفض إيرلين فوستر (رئيسة وزراء أيرلندا الشمالية من الحزب الديمقراطي الاتحادي) الاستقالة بعد أن طالتها فضيحة مالية «احتجاجًا على التعامل مع «مخطط طاقة فاشل» قد يكلف دافعي الضرائب 490 مليون جنيه إسترليني».
مارتن ماكغينيس و إيرلين فوستر |
ليتوارى بعدها عن المشهد السياسي خاصة مع اشتداد مرضه النادر حتى وفاته في 21 مارس/آذار 2017.
في حالة صحية سيئة |
عنه، قال جيري آدامز رئيس حزب شين فين:
"إن مارتن لم يذهب يوماً للحرب، بل الحرب جاءت إليه، إلى بلده ومدينته وشوارعه".
COMMENTS